ناطق نيوز

آية الطواهية تكتب..من الازدهار إلى التراجع الزراعي

آية الطواهية

من الازدهار إلى التراجع الزراعي

ناطق نيوز-كتبت آية الطواهية
لطالما كانت الأرض الأردنية بمثابة الشريان الذي يمد التجارة بالحياة، فمنذ العصور القديمة كانت طرق القوافل تعبر الصحراء الأردنية محمّلة بالبضائع الثمينة، حيث شكلت حلقة وصل بين الشرق والغرب. لكن اليوم، يبدو أن هذا الإرث التجاري يتعرض لتحديات كبيرة، فبدلًا من أن نكون من المصدرين الرئيسيين، أصبحنا نعتمد بشكل متزايد على التوريد الخارجي. التراجع ليس مجرد صدفة أو تغير طبيعي، بل نتيجة إهمال واضح لقطاع الزراعة والصناعة لصالح استيراد المنتجات الأجنبية، حتى بات الاقتصاد المحلي هشًّا ومعتمدًا على الآخرين بشكل غير مسبوق.


منذ القدم، كانت الأردن مركزًا تجاريًا مهمًا، فمدينة البتراء كانت القلب النابض لطريق التجارة النبطية، حيث كانت القوافل تحمل التوابل والبخور والمنسوجات عبر أراضيها. ومع مرور الزمن، استمرت أهمية الأردن التجارية خلال العهد العثماني، حيث لعبت الأراضي الخصبة في وادي الأردن دورًا حيويًا في توفير المحاصيل الأساسية كالقمح والشعير، التي كانت تصدر إلى مختلف مناطق الدولة العثمانية. لم تكن البلاد تعتمد على الخارج لسد احتياجاتها، بل كانت تنتج فائضًا يكفي للتصدير، وكانت الزراعة حجر الأساس للاقتصاد المحلي. أما اليوم، فالوضع انقلب رأسًا على عقب، فبدلًا من أن يكون الأردن منتجًا، أصبح مستهلكًا يعتمد بشكل شبه كلي على المنتجات المستوردة، وكأن الأرض التي كانت تزخر بالخيرات أصبحت قاحلة لا تصلح سوى للاستيراد.


السبب الأساسي لهذا التحول هو تراجع القطاع الزراعي، ليس بسبب نقص الموارد فقط، بل بسبب السياسات الاقتصادية التي همشت الزراعة لحساب قطاعات أخرى لم تثبت فاعليتها في توفير الأمن الغذائي أو تحقيق الاكتفاء الذاتي. ارتفاع تكاليف الإنتاج الزراعي، وشح المياه، وسياسات الإغراق التي جعلت المنتجات المستوردة أرخص من المحلية، كلها عوامل دفعت المزارعين إلى هجر أراضيهم والتوجه إلى المدن بحثًا عن أعمال أخرى أكثر استقرارًا!!!
في الماضي، كان الفلاح الأردني يرى في الأرض مصدر رزق لا غنى عنه، أما اليوم، فقد أصبح يراها عبئًا لا طائل منه، إذ باتت الأرباح ضئيلة والمخاطر مرتفعة، ما أدى إلى تآكل القطاع الزراعي تدريجيًا حتى كاد يختفي.


الأسواق الأردنية اليوم تعج بالمنتجات المستوردة، حتى باتت بعض المحاصيل الأساسية التي كانت الأردن تشتهر بزراعتها تأتي من الخارج بأسعار تنافسية. هذا ليس مجرد تراجع اقتصادي، بل هو فقدان للسيادة الغذائية، إذ أصبحنا نعتمد على الدول الأخرى في تأمين قوتنا اليومي، وكأننا عاجزون عن زراعة أرضنا التي لطالما أعطتنا الخير. كيف يمكن لدولة تمتلك أراضٍ زراعية خصبة أن تستورد الخضروات والفواكه؟ كيف يمكن أن نبرر استيراد المنتجات الغذائية في حين أن أراضينا الزراعية مهجورة أو مهددة بالزحف العمراني؟ المشكلة ليست في الطبيعة، بل في السياسات التي لم تعطِ الزراعة أي أولوية، بل جعلتها قطاعًا مهمشًا لا يحظى بالدعم الكافي.
إن استمرار الاعتماد على التوريد دون أي محاولة حقيقية لاستعادة الإنتاج المحلي هو انتحار اقتصادي. الحلول ليست مستحيلة، لكنها تحتاج إلى قرارات جريئة تعيد الاعتبار للزراعة. يجب دعم المزارعين ماليًا وتقنيًا، وتشجيعهم على العودة إلى الأرض عبر سياسات تحمي المنتج المحلي من الإغراق، وتفرض قيودًا على الاستيراد العشوائي. كما يجب الاستثمار في التكنولوجيا الزراعية لتقليل تكاليف الإنتاج وزيادة المحصول، مع إعادة إحياء الصناعات الزراعية التي يمكن أن تحول المحاصيل إلى سلع قابلة للتصدير. إن المشكلة ليست في القدرة، بل في الإرادة، فالأردن لديه الإمكانيات ليكون منتجًا زراعيًا، لكنه اختار أن يكون مستهلكًا بدافع الراحة والاعتماد على الخارج.


في النهاية، لا يمكن لدولة أن تبني اقتصادًا مستدامًا وهي تعتمد بشكل شبه كلي على التوريد الخارجي. الاستمرار في هذا النهج يعني مزيدًا من التبعية، ومزيدًا من الأزمات الاقتصادية كلما اضطربت الأسواق العالمية. آن الأوان لنستعيد سيادتنا الزراعية، ونعيد للأرض قيمتها، وندرك أن الأمن الغذائي لا يقل أهمية عن أي قطاع آخر، بل هو أساس الاستقلال الاقتصادي الحقيقي. إن لم نتحرك اليوم، فقد يأتي يوم نجد فيه أننا لا نملك حتى قرارنا الغذائي، وعندها سيكون الأوان قد فات.