الشِيخة .. بين النرجسية .. والتقاليد .. والتجديد .. والإستجداء .. والأصالة

الشِيخة .. بين النرجسية .. والتقاليد .. والتجديد .. والإستجداء .. والأصالة
ناطق نيوز- عوض ضيف الله الملاحمة
كتبت هذا المقال قبل عدة شهور ، عندما قرأت خبراً مفاده (( ان المستشارية العشائرية في الديوان الملكي توقفت عن منح لقب ( شيخ ) حتى إشعارٍ آخر )) . تأسفت كثيراً لهذا السعي المحموم للفوز بلقب شيخ ، واعتقد ان غالبية من تقدموا ، لا يعرفون متطلباتها ، ومواصفاتها ، وانها لا تُستجدى . واعتبرت ان الموضوع لا يستحق الكتابة والنشر ، في ظل ظروف الحرب على غزة .
الا ان ما نُشِر مؤخراً من ان ( ١٨٩,٠٠٠ ) أردني تقدموا للحصول على لقب شيخ من مستشارية العشائر . أدركت اننا نعيش حالة من التردي وبتنا نعشق الإستجداء ، وإستمراء التذلل ، وحبّ الرياء ، وان هذا يعكس تشويهاً مجتمعياً سيئاً ، مما يستدعي وقفة تحليلية علمية إجتماعية لتقصي الإختلالات المجتمعية التي أدت الى إنتشار هذا الداء المجتمعي .
وهنا أقتبس من منشور رائع تداولته مواقع التواصل الإجتماعي . حيث بينت الدراسة انه لو تم منح هذا العدد الضخم لقب شيخ ، فانه يُصبح لكل ( ٤٩ ) مواطناً أردنياً شيخاً .
ما هذا الإنحدار ؟ وما هذا السعي المحموم السخيف لحب الظهور ، والإستعراض ، والرياء ؟ ما هذا الحب العجيب للحصول على لقبٍ لا يشبههم ، ولا هم أهل له ؟ لقب شيخ لا يرفع قدر الا من كان كبيراً بتملكه صفات الشيخ الحقيقي الذين إفتقدناهم الا بضع عشرات من الشيوخ الفعليين الرجال الرجال ، الذين يعرفهم الشعب الأردني في فك النشب وادارة القضاء العشائري بتمكن ، وتميز ، وإقتدار .
حسناً فعلت مستشارية العشائر عندما توقفت عن منح لقب ( شيخ ) الى إشعارٍ آخر .لكنني أرى ان ذلك المرض المجتمعي يستوجب إستئصالاً لأسبابه . وعليه فإنني أقترح على ملك البلاد ان يُلغي منح لقب ( شيخ ) ، الا وفق ضوابط وشروط وفي حدود ضيقة وصارمة جداً . لأسباب عديدة منها :— أن من يتصف بموصفات الشِيخة لا يحتاج لأن توهب له . لأن بيئته المحيطة ، وما ورثه جينياً عن والده وأجداده تؤشر عليه من بين الجموع ، ويظهر ذلك في منطوقه ، ومعرفته الدقيقة للعادات والتقاليد وتمكنه من معرفة الأعراف الأردنية والقضاء العشائري . أما تسامحه ، وكرمه ، وعِزة نفسه ، ورفضه للإستجداء ، وترفعه ، وتسخيره كل إمكاناته وقدراته ووقته لفك النشب بين الناس . لان الشيخ الفعلي يهب دون ان ينتظر العطاء من أحد .
سمعنا كثيراً عن تصرف بعض الشيوخ الحقيقيين أيام الملك حسين رحمة الله عليه . فعندما يدعوه أحد الشيوخ الأصلاء لتناول طعام الغداء او العشاء في بيت ذلك الشيخ ، كان من لطف و سخاء الملك حسين ان يأمر بصرف مبلغ يغطي تكاليف الدعوة ويزيد . لكن بعض الشيوخ الذين شيختهم موروثة بجدارة واستحقاق ، إعتذروا بشدة وإصرار .
يبدو ان الشِيخة هي آفة العصر في الأردن . من كثرة الساعين اليها ، والباحثين عنها — وهم ليسوا أهلاً لها ، وإلا ما كانوا إستجدوها — ولو على حساب كرامتهم ، دون ان يعرفوا متطلباتها ، والمواصفات الواجب توافرها في الشخص حتى يستحق ان يُمنح لقب ( شيخ ) هذا المسمى الإجتماعي الجذاب .
الشِيخة الفعلية ليست لقباً يُمنح ، أبداً . الشيخة أفعال ، وأغلب متطلباتها ، ومواصفاتها جينية بحتة . هناك مثل شعبي أردني يقول بما معناه : (( اللي ما ورث العباءة او ( البِشّتْ ) عن أبوه ، لا يرتديه )) .
من يسعون للشيخة الزائفة — التي هم ليسوا اهلاً لها — هل يعرفون كيف تُنسج العباءة ؟ وهل يعرفون انواع العِقال ؟ وهل يعرفون كيف يتم لبس العقال حسب الأصول ؟ وهل يعرفون كيف تُلف العباءة على جسم من يرتديها ؟
إرتدى العرب العِقال منذ القِدم ، وكان أبيض اللون . وغيّر العرب لونه الى الأسود حِداداً على سقوط الأندلس عام ١٤٩٢ م .
كانت الشيخة في الأردن تحديداً تُمنح بتوجه شعبي ، جماهيري ، عشائري ، وقبلي ، ولا توهب بقرار من أية جهة . الشيخة ليست لقباً يُمنح . الشيخة موروث جيني ، يعزز بالمكتسب الجزل ، لمن لديه القدرات ، والإمكانات لإثراء شخصه ليصبح شخصية مجتمعية مرموقة ، يتنادى ( ربعه ) من أبناء قبيلته ليوكلوا اليه مهام ومسمى الشِيخة .
هناك صفات ومواصفات يجب توافرها في الشخص ، لتتنادى به قبيلته والقبائل المجاورة لتنادي به شيخاً . لأن الشيخة لا توهب ولا تُمنح . الشيخة تفرزها صفات ومواصفات ليتنادى الناس ويطلبون من ذاك الشخص المميز ليكون شيخاً . رغم انه لا يمكن تحديد كل الصفات والمواصفات للشيخة الا انني سأذكر بعضاً منها ، لانه لا يمكن الإحاطة بها كلها ، ومنها : بداية لا بد للشيخ الا ان يكون كريماً ، مُهاب الجانب ، صادقاً ، مترفعاً عن التوافه ، متسامحاً ( تغبى فيه الزلِّه ) ، يصعب ان لم يستحل إستفزازه ، بسبب رحابة صدره ، وترفعه عن سفاسف الأمور ، وان يحترف ويعشق إصلاح ذات البين ، ولا بد للشيخ الا ان يكون بيته مفتوحاً في كل الاوقات ولكافة الناس ، كما يجب ان يتصف الشيخ بمواصفات الرجولة كلها ، من جرأة ، وإقدام ، وشجاعة في القول والفعل ، وان يكون مقتدراً مادياً ، وان يكون كافة افراد عائلته مرحبين بالضيوف ، متسامحين ، معطائين ، كرماء ، لديهم جَلد وطاقة لتحمل الآخرين وتلبية حاجاتهم . الشيوخ الفعليين ينذرون أنفسهم واموالهم ، ووقتهم ساعين ( لفك النشب ) بين المتخاصمين من الناس .
رأى الملك فيصل ملك العراق بيت شَعر في صحراء العراق ، وذهب اليه . وعندما وصل ووجد صاحب البيت ، قال له الملك هل تعرفني ؟ قال صاحب البيت لا والله ما اعرفك ، لكن حق الطُرقيه على المعازيب . فقال : انا الملك فيصل ملك العراق . قال الرجل : والله ما دام انك الملك فيصل لي طلب عندك . قال له الملك : انا الملك واطلب عِزّك . فقال الرجل : ما دامك الملك فيصل ، والله جابك لي : انا أبي الشيخة على اولاد عمي ، وما قويتهم . قال له الملك : هل تعرف معنى شيخ ؟ قال الرجل : لا والله يا طويل العمر ، فقال الملك فيصل كلمة شيخ من ثلاثة حروف : —
ش : شيمتك بين ربعك
ي : يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر
خ : خادم لربعه مش سيد عليهم .
وأختم وأقول مُكرراً دعوتي لملك البلاد ان يُصدِر أمراً ملكياً بوقف التقدم بطلبات للحصول على لقب شيخ ، نهائياً . وان يتم منح لقب شيخ بأضيق الحدود ، وفق إستقصاء تقوم به مستشارية العشائر ، بالتشاور مع المحافظين . وان يتم وضع شروط ومواصفات دقيقة وصارمة لمنح لقب شيخ . حتى يتم إيقاف هذه المهزلة المُشينة المُسيئة للوطن ، وللقب إجتماعي عزيز ، يجب ان لا يفوز به الا من يستحقه ، ليكون قادراً على القيام بدوره المجتمعي المطلوب بكفاءة وإقتدار . لانه يفترض ، أصلاً ان الشعب الأردني المتحضر المتعلم قد تجاوزها كثيراً .